الثلاثاء، 19 فبراير 2013

البناء الخطابي لدى أرسطو ـ عرض في بلاغة الحجاج

مقدمة :
ارتبطت الخطابة أو " الريطوريقا " الأرسطية( rhetorique)  ـ بكونها فنا من فنون القول ـ بالظروف السياسية والفكرية والاجتماعية التي كانت تسود المجتمع الإغريقي بشكل عام ،ولعل هذا ما دفع أرسطو إلى تصنيف الخطابة إلى ثلاثة أصناف : محفلية ، وقضائية ، واستشارية .
سنتناول هذا الموضوع من خلال ثلاث محاور وهي :
1 ـ تمهيد حول الخطابة وأنواعها عند أرسطو .
2 ـ مصطلح " الريطوريقا " والترجمة العربية .
3 ـ أسس البناء الخطابي  لدى أرسطو .
 I ـ تمهيد :
1 ـ تعريف الخطابة عند أرسطو :
يعرف أرسطو الخطابة بقوله : " فالريطورية ( الخطابة ) قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة "[i] .
يمكن أن نستخلص من هذا النص أن الخطابة ـ قبل كل شيء ـ صناعة تشتغل وفق أدوات وآليات معينة ، يجتهد الخطيب من خلالها لكي يقنع المتلقي للخطاب ، في جميع المجالات ." وهذا ليس عملَ شيء من الصناعات الأخرى ، لأن تلك الأخر إنما تكون كل واحدة منها معلِّمة مقنعة في الأمور تحتها . فالطب يعلِّم في أنواع الصحة والمرض ...أما الريطورية فقد يظن أنها هي التي تتكلف الإقناع في الأمر يعرض كائنا ما كان .." [ii]

2 ـ أنواع الخطابة عند أرسطو :
يقسم أرسطو الخطابة إلى ثلاثة أقسام فيقول :" فمن الاضطرار إذا يكون الكلام الريطوري ثلاثة أجناس : مشوري ، ومشاجري ، وتثبيتي "[iii] . وهذه الثلاثة هي التي اصطلح عليها بعض الباحثين : بالاستشارية ، والقضائية ، والاحتفالية .وموضوع الاستشارية تقديم المشورة في أمر عام أو خاص ، وأما القضائية فموضوعها العدل والظلم ، وأما الاحتفالية فموضوعها المدح والذم . وكل واحد من هذه الأقسام مرتبط بمجال زمني محدد " والوقت أو الزمان لكل واحد من هذه : أما الذي يشير، فالمستقبل ،لأنه إنما يشير المشير فيما هو مستقبل : فبإذن أو بمنع ، فأما الذي ينازع ، فالذي قد كان ...وإنما يكون أبدا واحد يشكو ،وواحد يعتذر في اللائي قد  فُعلن .وأما المُثبت فإن الذي هو أولى الزمان به ذلك القريب الحاضر . فإن الناس جميعا ، إنما يمدحون ويذمون على حسب ماهو موجود قائم ... "[iv].

II  ـ مصطلح " الريطوريقا " ( rhetorique) والترجمة العربية :

احتفظت الترجمة العربية القديمة بالمصطلح كما هو في الأصل بدون تغيير ، فجاء في مقدمة الكتاب " إن الريطورية ترجع على الديالقطيقية ، وكلتاهما توجد من أجل شيء واحد ... "[v] ، وأما ابن رشد في "تلخيص الخطابة " فقد ترجم مصطلح " ريطوريقا " إلى " خطابة " كما جاء في مقدمة التلخيص : " إن صناعة الخطابة تناسب صناعة الجدل ، وذلك أن كليهما يؤمان غاية واحدة ... "[vi].
ومن الباحثين المعاصرين من يرى أن مصطلح " الريطوريقا " يوافق مصطلح " البلاغة " ، وفي هذا الشأن يقول الدكتور محمد العمري : " فنحن إذن نتحدث عن بلاغة عامة تمتد بين قطبين : قطب التخييل الشعري ، وقطب التداول الخطابي الحجاجي ، ومن المعروف تاريخيا أن القطب الثاني ، أي القطب التداولي هو الذي كان يحمل الاسم الإغريقي اللاتيني : ريطوريكي أو ريطوريك ،( وفي الفرنسية والأنجليزية rhetorique /rhetoric ) وهو اللفظ الذي تقابله الآن الكلمة العربية " بلاغة " [vii] .
غير أن الدكتور حمادي صمود يتحفظ من إطلاق كلمة " بلاغة " في مقابل " الريطوريقا " ويقول : " إن الحقل المعنوي لكلمة rhétotique  لا يطابق في الأعم الحقل الذي تبنيه كلمة " بلاغة " في السنن العربية ، وإن كنا نضطر دائما ، عن خطإ أو عن صواب ، إلى المطابقة في الترجمة بين الكلمتين . والتراجمة الذين اهتموا بمؤلفات أرسطو أدركوا هذه النكتة ، ففضلوا على ما عرفناه عنهم في الترجمة ، الإبقاء على المصطلح في لغته الأصلية فقالوا : " ريطوريقا " ثم لما تناول الفلاسفة الكتاب بالترجمة والشرح سموه " الخطابة " " [viii]

III  ـ أسس بناء الخطابة لدى أرسطو :

سنجعل من نص أرسطو في " الخطابة " منطلقا للحديث عن أسس بناء الحجاج الخطابي ، وهو النص الذي صدر به المقالة الثالثة من كتابه ، في صدد حديثه عن البراهين والحجج،  إذ يقول : " إن اللاتي ينبغي أن يكون القول فيهن على مجرى الصناعة فثلاث : ( إحداهن )  : الإخبار من أي شيء تكون التصديقات ، ( والثانية ) ذكر اللاتي تستعمل في الألفاظ ، و( الثالثة ) أن كيف ينبغي أن ننظم أو ننسق أجزاء القول ..." [ix].
يتبين من خلال هذا النص أن أهم الأسس التي ينبني عليها الحجاج في الخطابة عند أرسطو ، هي ما اصطلح عليه الدارسون المعاصرون بالإيجاد ، والترتيب ، والأسلوب . وقد أضاف أرسطو إلى هذه العناصر الثلاثة ، عنصرا رابعا وهو ما أسماه " الأخذ بالوجوه " ( hypocrisis ) وأطلق عليه بارث " مسرحة القول " ، فيما أسماه بدوي ب"الإلقاء "[x]. يقول هشام الريفي :
" ولقد أضاف اللاتين إلى المراحل الأربع التي ذكرها أرسطو مرحلة خامسة ، لكن لا علاقة لها بالإنتاج في الحقيقة ، وتتمثل في استظهار الخطيب للخطبة ، استعدادا لإلقائها ، وسموا هذه المرحلة " mémoria" ( أي الاستظهار ) ، ولئن اعتبر سيسرون " ciceron " القدرة على الاستظهار من باب الموهبة ، فإن " كانتيليان "
" quintilien" عرض قواعد عملية تيسر تلك العملية " [xi]
 هذا الكلام من هشام الريفي يشعر بأن العنصر الخامس ، ليس من وضع أرسطو ، غير أن ما جاء في مقدمة حمادي صمود لكتاب " أهم نظريات الحجاج " يثبت عكس ما ذهب إليه هشام الريفي ، وهو قوله : " بدأت خطابة أرسطو في الانحسار منذ وقت مبكر ، وكان أن تخلصت من قسمين اعتبرا دائما من أقسامها الثانوية وهما المسميان تمثيل القول أو (hypocrisis, actio ) والذاكرة ( memoria) لأنهما لا يتعلقان إلا بالمشافهة ..."[xii].
ومهما يكن من أمر فإننا سنحذو في عرضنا هذا حذو أغلب الباحثين في تناولهم للبناء الحجاجي عند أرسطو ، آخذين في الاعتبار كل هذه العناصر الخمسة مع التعليق عليها بما يناسب المقام .
1 ـ اكتشاف الحجج[xiii] ( أو الإيجاد ) :
" وهي في مصطلح أرسطو ( eurisis) وفي المصطلح اللاتيني الغالب (inventio) .وفي المصطلحين معنى الظفر بالشيء والوقوع عليه ، مما تؤديه العبارة العربية . بل ويشير منطوق لفظها إلى ما ورد ضمنا في الكلمتين الأخيرتين ، أو يرد في سياق التفسير المصاحب لهما ، وهو حسن التدبير والتقاط المناسبة بين الحجة وسياق الاحتجاج في صورتها المثلى ، حتى يسد المتكلم السبيل على السامع ، فلا يجد منفذا إلى استضعاف الحجة والخروج عن دائرة فعلها ، وربما نقضها بما يخالفها أو يباينها . وهذه المعاني موجودة في تقديرنا في كلمة " البصر بالحجة " وموجودة في الشروح والتحليلات المصاحبة لكلمة ( eurisis ) ."[xiv]
يميز أرسطو بين نوعين من أنواع الحجج ، أحدهما : الحجج غير الصناعية ، والثاني : الحجج الصناعية . فيقول : " فأما التصديقات فمنها بصناعة ، ومنها بغير صناعة "  [xv]
أ ـ الحجج غير الصناعية (الجاهزة ) :
يقصد بالحجج غير الصناعية عند أرسطو ، تلك التي لا يكون للخطيب دخل فيها ، إذ هي خارجة عن نطاق تصرفه واجتهاده ، مثل : الشهود ،والاعترافات ، والوثائق والإثباتات ، والأقوال المنتزعة عن طريق التعذيب ..." وقد أعني باللاتي بغير صناعة تلك اللاتي ليست تكون بحيلة منا ، لكن بأمور متقدمة ، كمثل الشهود والعذاب ، والكتب والصكاك وما أشبه ذلك ."[xvi]
ب ـ الحجج الصناعية ( غير الجاهزة ) :
يقصد بالحجج الصناعية ، الحجج التي تكون من اختصاص الخطيب ، وتتوقف على مدى فطنته في استخراجها والإدلاء بها في وقتها المناسب ، وتنقسم ـ بحسب أرسطو ـ إلى ثلاثة أقسام : " فمنها ما يكون بكيفية المتكلم وسَمْتِهِ ، ومنها ما يكون بتهيئة للسامع واستدراجه نحو الأمر ، ومنها ما يكون بالكلام نفسه قبل التثبيت ."[xvii]
نستخلص من هذا النص أن الحجج الصناعية عند أرسطو ثلاثة أنواع :
ـ ما يتعلق بسمت الخطيب وأخلاقه وهو ما يعرف بـ ( éthos).
ـ ما يتعلق بأحوال السامعين ونفسياتهم وهو ما أطلق عليه (pathos).
ـ ما يتعلق بكلام المتكلم ، وما تحمله اللغة داخلها من حجج منطقية ( logos).
" وهذه الحجج بأنواعها الثلاثة ، يقسمها أرسطو إلى قسمين كبيرين : حجج خلقية ذاتية ، وأخرى منطقية موضوعية " [xviii].
ب 1 ـ الحجج الخلقية الذاتية :
" وفيها يدرس أرسطو الأسس النفسية للخطابة ، وهذه الأسس النفسية لها ناحيتان : أولاهما ما يتعلق بخلق الخطيب أو شخصيته ، وثانيها تخص عواطف السامعين وانفعالاتهم .."[xix].
ب 1ـ1ـ ما يتعلق بالخطيب ( éthos) : وذلك بأن " يكون الكلام بنحو يجعل المتكلم أهلا أن يصدق ويقبل قوله . والصالحون هم المصدقون سريعا بالأكثر في جميع الأمور الظاهرة " [xx]" وقد يكون المتكلمون مصدقين لعلل ثلاث : لأنا قد نصدق من قِبَل هذه الثلاثة الأوجه كلها دون التثبت ، وهي : اللب ، والفضيلة ، والألفة ، فقد يكذب جميع الواصفين أو المشيرين ، إما من أجل عدم هذه العلل أجمع ، وإما من أجل عدم شيء منها ، لأنهم إما أن يكونوا وهم على صواب في الرأي ـ للخبث والشرارة ـ لا ينطقون بما عليه ظنهم ورأيهم ، وإما أن يكونوا ذوي لب فاضل ، لكنهم ليسوا بذوي ألف وأُنس ، وقد يمكن حينئذ أن يكونوا وهم يعرفون التي هي أفضل لا يشيرون بها "[xxi]
عبر غنيمي هلال عن هذه الثلاثةِ أوجه بالفطنة ، والفضيلة ، والتلطف للسامعين .
ولا ينبغي  ـ حسب أرسطو ـ أن يختل وجه من هذه الوجوه أو كلها ، لأنها إنما تؤدي المطلوب وهي مجتمعة  ، ذلك أن الخطيب إذا لم يكن فطنا ، تعرضت أفكاره للخطأ ، وقد تتوفر فيه الفطنة والفضيلة لكنه لا يألف السامعين ، فيمنعه ذلك من إخلاص النصح لهم بما يعود عليهم بالنفع ، وربما كان فطنا ، لكن لا يتوافر فيه الوجهان الآخران ، فيحتال على الناس ويغالطهم .
ب 1 ـ 2 ـ ما يتعلق بالسامع (pathos) :
ينبغي للمتصدر للخطابة أن يكون محيطا بالأحوال النفسية والعاطفية لمستمعيه ، ومعرفة ما يثير عواطفهم المختلفة ، من غضب ، وفرح ، وشفقة ، حتى يضمن لكلامه التأثير والفعالية . "وأما بتهيئة السامع فحين يستميله الكلام إلى شيء من الآلام المعترية ، فإنه ليس إعطاؤنا الأحكام في حال الفرح والحزن ومع المحبة والبغضة سواء .." [xxii]
وهو هنا يوجه الحديث إلى الخطابة القضائية خاصة ، وإن كان المستمع في أغلب الأحوال في وضعية الحكم .[xxiii]
أخذ  أرسطو يعدد هذه العواطف  والانفعالات ، وقد نص على أنه يتبع في واحدة منها استيفاء ثلاث مسائل : فإذا أخذنا الغضب ـ مثلا ـ كان علينا  أن نعرف الاستعدادات النفسية التي تحمل المرء على الغضب ، و أن نعد الذين نشعر عادة بالغضب  نحوهم ، والأشياء التي تثير فينا هذا الشعور ..[xxiv] وهكذا فعل في باقي الصفات ، ومن مختلف الطبقات والأعمار .
ب 2 ـ الحجج المنطقية الموضوعية ( logos):
" يفسح أرسطو لمعالجتها مجالا أوسع من المجال الذي عالج فيه الأقيسة الذاتية السابقة . وهنا تتجلى علاقة الخطابة بالمنطق ، وفي المنطق تدور الحجج المختلفة حول الاستقراء ، ثم القياس الثلاثي . والخطابة يقوم فيها المثل exemple  مقام الاستقراء ، كما يغني المضمر enthymème عن القياس الثلاثي المنطقي [xxv]. وجميع الخطباء لا تخرج حججهم عن المثل والقياس المضمر "[xxvi] .
ب2 ـ 1 : المثل :
يلجأ الخطيب إلى استحضار المثل في خطبته لتعضيد القضية التي يدافع عنها ، وينقسم المثل إلى قسمين :مثل تاريخي ، ومثل مختَرَع .
ب 2 ـ 1 ـ 1ـ المثل التاريخي : يلجأ الخطيب إلى وقائع تاريخية حدثت في الماضي ، فيوردها حجة لتقوية رأيه والقضية التي يتبناها .
ب2 ـ 1 ـ 2ـ المثل المخترع : وذلك بإيراد أمثلة مشابهة للقضية ، أو يضرب لها مثلا على لسان الحيوانات ( الخرافة ) .
ب2 ـ 2 : القياس المضمر :
ينقسم القياس المضمر بدوره إلى قسمين : قياس استدلالي ، وقياس تفنيدي " ولكل منهما مواضع حجج عامة ، نذكر منها هنا ما يمكن أن يفيد الكاتب والخطيب "[xxvii].
ب 2ـ 2 ـ 1 : الاستدلالي : " فأهم مواضع الحجج في القياس المضمر الاستدلالي :
ـ التضاد : وفيه تؤخذ الحجة بواسطة التضاد بين الأشياء ، كالسلم والحرب ، والنفع والضرر ، والحق والباطل ...وذلك مثل (إذا كانت الحرب سبب الشرور الحاضرة فبالسلم يجب إصلاحها ) ..
ـ علاقة الأقل بالأكثر : فإذا لم يكن إثبات شيء لشيء آخر هو معه أكثر احتمالا ، فإنه لا يمكن إثباته لشيء ثالث هو معه أقل احتمالا . كأن يقال : ( إذا كان الأنبياء لا يعلمون الغيب ، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فغيرهم من المؤمنين لا يعلمون ولا يملكون .."[xxviii]
ب 2 ـ 2 ـ 2 : التفنيدي : " وكما شرح أرسطو مواضع الحجاج بالقياس المضمر على نحو ما قلنا ، شرح كذلك مواضع تفنيد هذه الحجج ، وحسبنا هنا أن نذكر كيف يفند الخطيب حجج خصمه فيما يتعلق بالقياس المضمر ، وذلك بتأليف أقيسة أخرى مقابلة لأقيسة الخصم ، وتتضمن الاعتراضات التي تفسد على الخصم الأقيسة التي أتى بها ....فإذا قال الخصم : ( إن الرجل الفاضل يفعل الخير لجميع أصدقائه ) ، كان الاعتراض هو : ( لكن الشرير لا يفعل الشر لكل أصدقائه ) .."[xxix]
في ختام هذا المبحث المتعلق باستكشاف الحجج ، نورد هنا خطاطة مستوعبة لما سلف ذكره مما يندرج تحت هذا العنوان [xxx].




استكشاف الحجج
 ↓ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ↓
حجج غير صناعية ( جاهزة )                       حجج صناعية ( غير جاهزة )
 ـ الشهود ، والاعترافات ، والقوانين...                                     ↓
↓ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ↓
 ذاتية نفسية                                                                         منطقية موضوعية
      ↓                                                                                          ↓
 ↓ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ↓                                                   ↓ــــــــــــــــــــــــــــــ↓
تتعلق بالخطيب تتعلق بالسامع                                         المثال          القياس المضمر
الفضيلة ـ الفطنة        الخوف ـ الغضب ـ الرحمة                        ↓           ↓ــــــــــــــــــ↓             
والألفة                    حسب الأعمار والطبقات                          ↓        استدلالي / تفنيدي
↓ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ↓
تاريخي                                                                              مخترع
                                                                               ↓
                                                    ↓ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ↓
                                              اختراع أمثلة مشابهة            الحكاية على لسان الحيوان
     ( الخرافة )

2 ـ ترتيب أجزاء القول ( taxis) [xxxi] :
" إذ بعد الظفر بالحجج والتفكير في مكونات الخطاب .. لا بد من التفكير في ترتيب تلك الحجج ، ووضع كل واحدة في المكان المناسب لها ، فيزيدها ذلك قوة ويمكن لها في ذهن المخاطَب .."[xxxii]
يمكن إجمال أجزاء القول عند أرسطو في أربعة عناصر وهي : الاستهلال ، والعرض ، والبرهنة ، ثم الخاتمة . و يتضح من خلال كلام أرسطو أنه يركز بشكل كبير على عنصرين رئيسين هما : العرض والبرهنة ، باعتبارهما عنصرين ثابتين في جميع أنواع الخطب ، حيث يقول " الكلام يتضمن جزأين ، إذ لا بد من ذكر الموضوع الذي نبحث فيه ، ثم بعد ذلك نقوم بالبرهنة . ولهذا فمن المستحيل بعد ذكر الموضوع ، أن نتجنب البرهنة ، أو نقوم بالبرهنة قبل ذكر الموضوع ، ذلك أنه حين نبرهن إنما نبرهن على شيء ، ولا نذكر الشيء إلا  من أجل البرهنة عليه . وأولى هذه العمليات هي العرض ، والثانية الدليل ..." [xxxiii]
" أما الاستهلال والمناقشة بالتساجل والتكرار بإيجاز لما قيل ، فإنها لا توجد في خطب المحافل ، إلا إذا كان ثمة مناظرة . فكثيرا ما يقع في هذه الخطب اتهام ودفاع ، لكن لا يمكن أن نسمي هذا بعدُ محفلا خطابيا . أما الخاتمة فلا تدخل في كل نوع من أنواع الخطب القضائية ، فهي مثلا بغير فائدة ، إذا كان العرض قصيرا ، أو كانت تفاصيل القضية سهلة الحفظ ، ففي هذه الحالة يحدث أن يحذفه المرء تجنبا للإطناب . وهكذا ليس ثم من ضرورة إلا للقضية والدليل ، فهذا هو الملائم حقا للكلام . وقصارانا السماح بـ : الاستهلال ، والعرض ، والدليل ، والخاتمة " [xxxiv]
وجريا على هذا النسق نورد هذه العناصر بشيء من الإيجاز :
○ الاستهلال : " والمتبع أن يحتوي الاستهلال لحظتين : لحظة الاستهواء والاستمالة ، وذلك حسب طبيعة القضية المطروحة ، ولحظة الإعلان عن التقسيم المتبنى ، والتخطيط المتبع "[xxxv]
يتضح من خلال النص المتقدم أن الاستهلال ينبغي أن يتجه إلى تحقيق غايتين ، أولاهما استمالة السامع ليتهيأ لتقبل ما يلقى إليه ، والثانية الإفصاح عما يريد الخطيب أن يخوض فيه .
○ العرض :  لا يشترط في العرض أن يكون ملما بجميع التفاصيل والجزئيات بل " ينبغي أن يكون واضحا و مختصرا ، خاليا من الاستطراد والتشخيص ، يكتفي بالإعداد لمرحلة البرهنة .."
○ البرهنة : تتخذ البرهنة منحيين اثنين وهما الإثبات أو النقض ، أو هما معا ، بحسب نوع الخطبة  ، وفي أي منها أخذ الخطيب فعليه  " بعد العرض أن يسرع في البرهنة بتقديم بعض الأدلة القوية وتأخير بعضها . وتقدم الحجج تنازلا ( من الأقوى إلى الأضعف ) ، أو تصاعدا ( عكس الأول ) ، أو توزع بين الأول والأخير . إن ذلك يتحدد حسب رأي أرسطو، بالنظر إلى الظرف والمعطيات العامة التي يراعيها الخطيب "[xxxvi]
○ الخاتمة : ينصب اهتمام الخطيب في صياغة الخاتمة حول شيئين : الأول إثارة عواطف المستمعين بما يجعلهم يثقون فيه وفي القضية التي يتبناها ، والثاني تلخيص ما سبق من الأدلة والحجج . فنحن إذن أمام " مستويين : مستوى الأشياء ، أي مستوى الإعادة والتلخيص ، ومستوى العواطف "[xxxvii].
3 ـ الأسلوب ( أو العبارة ) ( lexis) :
" والمرحلة الثالثة في الإنتاج سماها أرسطو " lexis  " وتعرف في اللاتينية بـ : " elocutio" ولقد استعمل ابن رشد كلمة " فصاحة "   مقابلا لها ، أما بدوي فاستعمل كلمة " أسلوب " [xxxviii]
" وتعود أهمية الأسلوب في نظر أرسطو إلى أن عامة الناس يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم ، فهم في حاجة إلى وسائل الأسلوب أكثر من حاجتهم إلى الحجة "[xxxix]
" فإنه ليس يكفي بأن يكون الذي ينبغي أن يقال عتيدا ، بل يحتاج اضطرارا إلى أن يقال ذلك على ما ينبغي "[xl] .
وعلى الخطيب قبل أن ينتج خطابه بأسلوب يتوافق والمقام إذ " لكل نوع خطابي أسلوبا يليق به ، فالأسلوب في الكتابة غيره في المناقشات ، والأسلوب في الجماعات غيره في المحاكم "[xli]
ويمكن إجمالا أن نحدد صفات الأسلوب عند أرسطو في  أربعة عناصر : الصحة ، والوضوح ، والدقة ، واستعمال المجازات .[xlii]
أ ـ الصحة : وصحة الأسلوب أساس جودة الكلام ، وتستلزم هذه الصحة أمورا ، منها استعمال الكلمات التي تربط بعضها ببعض ...ويمثل أرسطو لذلك بجملة للفيلسوف هيراكلتيس herclitus
: (على الرغم من أن هذه الحقيقة على الدوام ، الناس لا يعتقدون فيها ) فلا يدرى بم يتعلق ( على الدوام ) : أبالحقيقة أم بالفعل بعدها ؟ . وما تستلزمه  صحة الكلام أن تسمي الأشياء بأسمائها ، ويقصد أرسطو بذلك إلى أنه لا ينبغي أن يأتي المتكلم بكلام عام يحتمل وجوها كثيرة ، فلا تتم به الفائدة ...[xliii]
ب ـ الوضوح والدقة  : ويقصد بالوضوح استعمال الألفاظ الدارجة على ألسنة الناس ، لأنها أقرب إلى الإفهام  وأداء وظيفة الإبلاغ  ، وإن كانت تؤدي أحيانا إلى الابتذال . ولأن الكلام الغامض أسلوب يلجأ إليه السوفسطائيون لتضليل سامعيهم . ويحسن أن يتميز الأسلوب عن اللغة الدارجة بألفاظ وصفات ترفع من شأنه ، على شرط أن يراعي القصد ، والمعنى المراد به ، وإلا جاءت العبارة غثة متكلفة ، ومن الأمثلة على ذلك  عبارات أليسداماس ، فإنه بدل من أن يقول عن شخص أنه يجري يقول : ( فدفعه قلبه إلى أن يطير بقدميه ) ، ويقول كذلك ( ستره بورق أشجار الغابة ) بدل أن يقول ستره بالورق .[xliv]
ج ـ استعمال المجازات : ويطلق عليه أرسطو " التغيير " ، ومفهوم التغيير عنده يشمل المجاز والتشبيه والاستعارة . يقول " فلنجعل القول هاهنا في اللاتي هن في علم هذه الجهة . ونحد فنقول إن فضيلة المقال أن يكون بالتغيير "[xlv] " ومعظم التعبيرات الرشيقة تنشأ عن التغيير وعن نوع من التمويه يدركه السامع فيما بعد ، ويزداد إدراكا كلما ازداد علما ، وكلما كان الموضوع مغايرا لما كان يتوقعه ، وكأن النفس تقول ( هذا حق ! وأنا التي أخطأت ) ، واللطيف الرشيق من الأمثال ما يوحي بمعنى أكثر مما يتضمنه اللفظ ...وللسبب عينه كانت الألغاز لذيذة ، إنها تعلمنا أمورا على سبيل المجاز .." [xlvi].
وينص أرسطو أن جملة  من قبيل ( يجب الموت قبل ارتكاب أي خطأ ) ، ليس فيها من الروعة شيء ، بخلاف لو قال : ( الموت الجدير بالتمجيد موت من بالموت غير جدير ) .[xlvii]
4 ـ الإلقاء  (hypocrisis ) :
تقدم الكلام عن الإلقاء في المحور الأول ، وهو ما سماه بارث بمسرحة القول ، ويقصد به ما يصاحب الخطبة من حركات الجسد ، وتعابير الوجه وغير ذلك .
5 ـ الذاكرة  (mémoria ) :
والمقصود بالذاكرة ، قدرة الخطيب على تذكر ما فات من خطبته وإحاطته بها حتى لا يقع في التناقض ، " ولئن اعتبر سيسرون " ciceron " القدرة على الاستظهار من باب الموهبة ، فإن " كانتيليان " " quintilien" عرض قواعد عملية تيسر تلك العملية

خاتمة :
إن عملنا في هذا العرض لا يعدو أن يكون لمحة عن البناء الحجاجي في خطابة أرسطو ، تناولنا فيه ما يتعلق بالخطابة ، تعريفها ، وأنواعها ، وأسس بنائها .
وتعود أهمية الخطابة في هذا العصر إلى الظروف والأوضاع العالمية الجديدة  في كافة  المستويات والأصعدة ، حيث إنها تفرض و بقوة على الإنسان أن يكون كائنا خطابيا بكل امتياز " على هذا النحو يطلق بعض الفلاسفة على هذا العصر ، عصر الخطابة ، لا بالمعنى التقني الضيق ، وإنما بالمعنى الواسع العميق المشير إلى مختلف التيارات المتفاعلة فيه المتصارعة . فالخطابة في معناها العميق المتسع تعني إمكانية قيام فضاء للتعامل بين الناس على أساس اعتبار الآخر سبيلا إلى الأنا ، يعمق اكتشاف الاختلاف معه المعرفة بالذات والوقوف على تخومها ، وعلى أساس ما يترتب عن الاختلاف من تعدد الرؤى وتباين المواقف ، يحمل على إقناع الواحد بسلطة الحجة والبراعة في تصريف اللغة ، وتعني أيضا حرية الرأي وما يلزم عنها من حرية الاختيار .."[xlix] .


 من إعداد الطالب الباحث : رشيد لولو



[i] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة ، تحقيق وتعليق عبد الرحمن بدوي ، ص : 9
[ii] ـ نفسه .
[iii] ـ نفسه ص : 17
[iv] ـ نفسه .
[v] ـ الخطابة ،  الترجمة العربية القديمة ، تحقيق وتعليق عبد الرحمن بدوي  ص : 3
[vi] ـ ابن رشد ، تلخيص الخطابة ص : 3
[vii] ـ[vii] ـ محمد العمري ، مقالة بعنوان " بلاغة الخطاب السياسي الهوية والرسالة " شارك بها في ندوة بدار الثقافة ، المحمدية بتاريخ 27 / 09 / 2007 ، ونشرت بجريدة الاتحاد الاشتراكي يوم : 02 / 10 / 2007.
[viii] ـ حمادي صمود وآخرون ، أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم " ص : 12
[ix] ـ الخطابة ،  الترجمة العربية القديمة ، تعليق  بدوي  ص : 181.
[x] ـ هشام الريفي ، الحجاج عند أرسطو ، ضمن كتاب أهم نظريات الحجاج  ص : 174.
[xi] ـ نفسه . ص : 174
[xii] ـ حمادي صمود وآخرون ، أهم نظريات الحجاج ص : 37
[xiii] ـ يطلق عليه حمادي صمود عبارة " البصر بالحجة " تبعا للجاحظ في كتاب " البيان والتبيين " ، أنظر " اهم نظريات الحجاج " ص : 14.
[xiv] ـ حمادي صمود وآخرون ، أهم نظريات الحجاج ، ص : 14
[xv] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة ، تحقيق بدوي ،  ص : 9
[xvi] ـ نفسه ، ص : 9
[xvii] ـ نفسه ، ص : 10
[xviii] ـ محمد غنيمي هلال ، النقد الأدبي الحديث ، ص : 100
[xix] ـ نفسه ، ص : 100
[xx] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة  ، تحقيق وتعليق بدوي  ، ص : 10
[xxi] ـ نفسه ، ص : 81
[xxii] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة ، تحقيق بدوي ، ص : 10
[xxiii] ـ محمد العمري ، في بلاغة الإقناع ، ص : 25
[xxiv] ـ محمد غنيمي هلال ، النقد العربي الحديث ، ص : 101
[xxv] ـ القياس الثلاثي هو المتكون من مقدمة كبرى ، ومقدمة صغرى ، ثم نتيجة . أما القياس المضمر فهو الذي تحذف مقدمته الصغرى ، ويكتفي بالمقدمة الكبرى والنتيجة فقط .
[xxvi] ـ محمد غنيمي هلال ، النقد العربي الحديث ، ص : 101
[xxvii] ـ نفسه .
[xxviii] ـ نفسه ، ص :  108 بتصرف ، أورد هلال تسعة مواضع أقتصرنا على ذكر اثنين منها إيثارا للاختصار .
[xxix] ـ نفسه ، ص : 111 بتصرف .
[xxx] ـ استفدنا هذه الخطاطة من كتاب " في بلافة الخطاب الإقناعي " لمحمد العمري . مع بعض التغييرات .
[xxxi] ـ جعل أرسطو الترتيب في المرتبة الثالثة بعد الأسلوب ، لكن أغلب الدارسين درجوا على تقديم الترتيب على الأسلوب ، على اعتبار أن الخطيب يرتب هذه الأجزاء قبل أن يباشر القول الخطبي .
[xxxii] ـ حمادي صمود ، أهم نظريات الحجاج ، ص : 15
[xxxiii] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة ، تحقيق بدوي ،  ص : 13
[xxxiv] ـ نفسه ص : 14
[xxxv] ـ محمد العمري ، في بلاغة الحجاج الإقناعي ، ص : 130 ، نقلا عن بارت في مقالته في مجلة communication 16 ,p:215
[xxxvi] ـ نفسه ، ص : 130
[xxxvii] ـ نفسه ، ص : 130
[xxxviii] ـ هشام الريفي ، الحجاج عند أرسطو ،ضمن كتاب  أهم نظريات الحجاج ، ص : 173
[xxxix] ـ محمد العمري ، في بلاغة الخطاب  الإقناعي  ص : 87
[xl] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة ،تحقيق بدوي ، ص: 181
[xli] ـ نفسه ، ص : 225
[xlii] ـ غنيمي هلال ، النقد الأدبي الحديث . بتصرف
[xliii] ـ نفسه ، 115
[xliv] ـ نفسه ، 117
[xlv] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة ، تحقيق بدوي ص : 187
[xlvi] ـ نفسه ، ص : 220
[xlvii] ـ نفسه ص : 223
[xlviii] ـ هشام الريفي ، الحجاج عند أرسطو ، ص : 174
[xlix]  ـ حمادي صمود ، أهم نظريات الحجاج ، ص : 47

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تحميل كتاب فلسفة اللغة

كتاب فلسفة اللغة  تأليف : سيلفان أورو ـ جاك ديشان ـ جمال كولوغلي ترجمة : بسام بركة  مراجعة : ميشال زكرياء  صدر سنة : 2012 ع...