مقدمة :
ارتبطت الخطابة أو " الريطوريقا " الأرسطية( rhetorique) ـ بكونها فنا من فنون القول ـ بالظروف السياسية
والفكرية والاجتماعية التي كانت تسود المجتمع الإغريقي بشكل عام ،ولعل هذا ما دفع
أرسطو إلى تصنيف الخطابة إلى ثلاثة أصناف : محفلية ، وقضائية ، واستشارية .
سنتناول هذا الموضوع من خلال ثلاث محاور وهي :
1 ـ تمهيد حول الخطابة وأنواعها عند أرسطو .
2 ـ مصطلح " الريطوريقا " والترجمة العربية .
3 ـ أسس البناء الخطابي لدى أرسطو .
I ـ تمهيد :
1 ـ تعريف الخطابة عند أرسطو :
يعرف أرسطو الخطابة بقوله : "
فالريطورية ( الخطابة ) قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة
"[i] .
يمكن أن نستخلص من هذا النص أن الخطابة ـ
قبل كل شيء ـ صناعة تشتغل وفق أدوات وآليات معينة ، يجتهد الخطيب من خلالها لكي
يقنع المتلقي للخطاب ، في جميع المجالات ." وهذا ليس عملَ شيء من الصناعات
الأخرى ، لأن تلك الأخر إنما تكون كل واحدة منها معلِّمة مقنعة في الأمور تحتها .
فالطب يعلِّم في أنواع الصحة والمرض ...أما الريطورية فقد يظن أنها هي التي تتكلف
الإقناع في الأمر يعرض كائنا ما كان .." [ii]
2 ـ أنواع الخطابة عند أرسطو :
يقسم أرسطو الخطابة إلى ثلاثة أقسام فيقول
:" فمن الاضطرار إذا يكون الكلام الريطوري ثلاثة أجناس : مشوري ، ومشاجري
، وتثبيتي "[iii] . وهذه الثلاثة هي التي
اصطلح عليها بعض الباحثين : بالاستشارية ، والقضائية ، والاحتفالية .وموضوع
الاستشارية تقديم المشورة في أمر عام أو خاص ، وأما القضائية فموضوعها العدل
والظلم ، وأما الاحتفالية فموضوعها المدح والذم . وكل واحد من هذه الأقسام مرتبط
بمجال زمني محدد " والوقت أو الزمان لكل واحد من هذه : أما الذي يشير،
فالمستقبل ،لأنه إنما يشير المشير فيما هو مستقبل : فبإذن أو بمنع ، فأما الذي
ينازع ، فالذي قد كان ...وإنما يكون أبدا واحد يشكو ،وواحد يعتذر في اللائي
قد فُعلن .وأما المُثبت فإن الذي هو أولى
الزمان به ذلك القريب الحاضر . فإن الناس جميعا ، إنما يمدحون ويذمون على حسب ماهو
موجود قائم ... "[iv].
II ـ مصطلح " الريطوريقا
" (
rhetorique)
والترجمة العربية :
احتفظت الترجمة العربية القديمة بالمصطلح
كما هو في الأصل بدون تغيير ، فجاء في مقدمة الكتاب " إن الريطورية ترجع على
الديالقطيقية ، وكلتاهما توجد من أجل شيء واحد ... "[v]
، وأما ابن رشد في "تلخيص الخطابة " فقد ترجم مصطلح " ريطوريقا
" إلى " خطابة " كما جاء في مقدمة التلخيص : " إن صناعة
الخطابة تناسب صناعة الجدل ، وذلك أن كليهما يؤمان غاية واحدة ... "[vi].
ومن الباحثين المعاصرين من يرى أن مصطلح
" الريطوريقا " يوافق مصطلح " البلاغة " ، وفي هذا الشأن يقول
الدكتور محمد العمري : " فنحن إذن نتحدث عن بلاغة عامة تمتد بين قطبين : قطب
التخييل الشعري ، وقطب التداول الخطابي الحجاجي ، ومن المعروف تاريخيا أن القطب
الثاني ، أي القطب التداولي هو الذي كان يحمل الاسم الإغريقي اللاتيني : ريطوريكي
أو ريطوريك ،( وفي الفرنسية والأنجليزية rhetorique
/rhetoric ) وهو اللفظ الذي
تقابله الآن الكلمة العربية " بلاغة " [vii]
.
غير أن الدكتور حمادي صمود يتحفظ من إطلاق
كلمة " بلاغة " في مقابل " الريطوريقا " ويقول : " إن
الحقل المعنوي لكلمة rhétotique لا يطابق في الأعم الحقل
الذي تبنيه كلمة " بلاغة " في السنن العربية ، وإن كنا نضطر دائما ، عن
خطإ أو عن صواب ، إلى المطابقة في الترجمة بين الكلمتين . والتراجمة الذين اهتموا
بمؤلفات أرسطو أدركوا هذه النكتة ، ففضلوا على ما عرفناه عنهم في الترجمة ،
الإبقاء على المصطلح في لغته الأصلية فقالوا : " ريطوريقا " ثم لما
تناول الفلاسفة الكتاب بالترجمة والشرح سموه " الخطابة " " [viii]
III ـ أسس بناء الخطابة لدى
أرسطو :
سنجعل من نص أرسطو في " الخطابة
" منطلقا للحديث عن أسس بناء الحجاج الخطابي ، وهو النص الذي صدر به المقالة
الثالثة من كتابه ، في صدد حديثه عن البراهين والحجج، إذ يقول : " إن اللاتي ينبغي أن يكون
القول فيهن على مجرى الصناعة فثلاث : ( إحداهن )
: الإخبار من أي شيء تكون التصديقات ، ( والثانية ) ذكر اللاتي تستعمل في
الألفاظ ، و( الثالثة ) أن كيف ينبغي أن ننظم أو ننسق أجزاء القول ..." [ix].
يتبين من خلال هذا النص أن أهم الأسس التي
ينبني عليها الحجاج في الخطابة عند أرسطو ، هي ما اصطلح عليه الدارسون المعاصرون
بالإيجاد ، والترتيب ، والأسلوب . وقد أضاف أرسطو إلى هذه العناصر الثلاثة ، عنصرا
رابعا وهو ما أسماه " الأخذ بالوجوه " ( hypocrisis ) وأطلق عليه بارث " مسرحة
القول " ، فيما أسماه بدوي ب"الإلقاء "[x].
يقول هشام الريفي :
" ولقد أضاف اللاتين إلى المراحل
الأربع التي ذكرها أرسطو مرحلة خامسة ، لكن لا علاقة لها بالإنتاج في الحقيقة ،
وتتمثل في استظهار الخطيب للخطبة ، استعدادا لإلقائها ، وسموا هذه المرحلة " mémoria" ( أي
الاستظهار ) ، ولئن اعتبر سيسرون " ciceron "
القدرة على الاستظهار من باب الموهبة ، فإن " كانتيليان "
" quintilien" عرض قواعد عملية تيسر تلك
العملية " [xi]
هذا الكلام من هشام الريفي يشعر بأن العنصر
الخامس ، ليس من وضع أرسطو ، غير أن ما جاء في مقدمة حمادي صمود لكتاب " أهم
نظريات الحجاج " يثبت عكس ما ذهب إليه هشام الريفي ، وهو قوله : " بدأت
خطابة أرسطو في الانحسار منذ وقت مبكر ، وكان أن تخلصت من قسمين اعتبرا دائما من
أقسامها الثانوية وهما المسميان تمثيل القول أو (hypocrisis,
actio ) والذاكرة ( memoria) لأنهما لا يتعلقان
إلا بالمشافهة ..."[xii].
ومهما يكن من أمر فإننا سنحذو في عرضنا
هذا حذو أغلب الباحثين في تناولهم للبناء الحجاجي عند أرسطو ، آخذين في الاعتبار
كل هذه العناصر الخمسة مع التعليق عليها بما يناسب المقام .
1 ـ اكتشاف الحجج[xiii] ( أو الإيجاد ) :
" وهي في مصطلح أرسطو ( eurisis) وفي المصطلح
اللاتيني الغالب (inventio) .وفي المصطلحين معنى الظفر بالشيء والوقوع عليه ، مما تؤديه
العبارة العربية . بل ويشير منطوق لفظها إلى ما ورد ضمنا في الكلمتين الأخيرتين ،
أو يرد في سياق التفسير المصاحب لهما ، وهو حسن التدبير والتقاط المناسبة بين
الحجة وسياق الاحتجاج في صورتها المثلى ، حتى يسد المتكلم السبيل على السامع ، فلا
يجد منفذا إلى استضعاف الحجة والخروج عن دائرة فعلها ، وربما نقضها بما يخالفها أو
يباينها . وهذه المعاني موجودة في تقديرنا في كلمة " البصر بالحجة "
وموجودة في الشروح والتحليلات المصاحبة لكلمة ( eurisis ) ."[xiv]
يميز أرسطو بين نوعين من أنواع الحجج ،
أحدهما : الحجج غير الصناعية ، والثاني : الحجج الصناعية . فيقول : " فأما
التصديقات فمنها بصناعة ، ومنها بغير صناعة " [xv]
أ ـ الحجج غير الصناعية (الجاهزة ) :
يقصد بالحجج غير الصناعية عند أرسطو ، تلك
التي لا يكون للخطيب دخل فيها ، إذ هي خارجة عن نطاق تصرفه واجتهاده ، مثل :
الشهود ،والاعترافات ، والوثائق والإثباتات ، والأقوال المنتزعة عن طريق التعذيب ..."
وقد أعني باللاتي بغير صناعة تلك اللاتي ليست تكون بحيلة منا ، لكن بأمور متقدمة ،
كمثل الشهود والعذاب ، والكتب والصكاك وما أشبه ذلك ."[xvi]
ب ـ الحجج الصناعية ( غير الجاهزة ) :
يقصد بالحجج الصناعية ، الحجج التي تكون
من اختصاص الخطيب ، وتتوقف على مدى فطنته في استخراجها والإدلاء بها في وقتها
المناسب ، وتنقسم ـ بحسب أرسطو ـ إلى ثلاثة أقسام : " فمنها ما يكون
بكيفية المتكلم وسَمْتِهِ ، ومنها ما يكون بتهيئة للسامع واستدراجه نحو الأمر ،
ومنها ما يكون بالكلام نفسه قبل التثبيت ."[xvii]
نستخلص من هذا النص أن الحجج الصناعية عند
أرسطو ثلاثة أنواع :
ـ ما يتعلق بسمت الخطيب وأخلاقه وهو ما
يعرف بـ ( éthos).
ـ ما يتعلق بأحوال السامعين ونفسياتهم وهو
ما أطلق عليه (pathos).
ـ ما يتعلق بكلام المتكلم ، وما تحمله
اللغة داخلها من حجج منطقية ( logos).
" وهذه الحجج بأنواعها الثلاثة ،
يقسمها أرسطو إلى قسمين كبيرين : حجج خلقية ذاتية ، وأخرى منطقية موضوعية " [xviii].
ب 1 ـ الحجج الخلقية الذاتية :
" وفيها يدرس أرسطو الأسس النفسية
للخطابة ، وهذه الأسس النفسية لها ناحيتان : أولاهما ما يتعلق بخلق الخطيب أو
شخصيته ، وثانيها تخص عواطف السامعين وانفعالاتهم .."[xix].
ب 1ـ1ـ ما يتعلق بالخطيب ( éthos) : وذلك بأن "
يكون الكلام بنحو يجعل المتكلم أهلا أن يصدق ويقبل قوله . والصالحون هم المصدقون
سريعا بالأكثر في جميع الأمور الظاهرة " [xx]"
وقد يكون المتكلمون مصدقين لعلل ثلاث : لأنا قد نصدق من قِبَل هذه الثلاثة
الأوجه كلها دون التثبت ، وهي : اللب ، والفضيلة ، والألفة ، فقد يكذب جميع
الواصفين أو المشيرين ، إما من أجل عدم هذه العلل أجمع ، وإما من أجل عدم شيء منها
، لأنهم إما أن يكونوا وهم على صواب في الرأي ـ للخبث والشرارة ـ لا ينطقون بما
عليه ظنهم ورأيهم ، وإما أن يكونوا ذوي لب فاضل ، لكنهم ليسوا بذوي ألف وأُنس ،
وقد يمكن حينئذ أن يكونوا وهم يعرفون التي هي أفضل لا يشيرون بها "[xxi]
عبر غنيمي هلال عن هذه الثلاثةِ أوجه
بالفطنة ، والفضيلة ، والتلطف للسامعين .
ولا ينبغي ـ حسب أرسطو ـ أن يختل وجه من هذه الوجوه أو
كلها ، لأنها إنما تؤدي المطلوب وهي مجتمعة
، ذلك أن الخطيب إذا لم يكن فطنا ، تعرضت أفكاره للخطأ ، وقد تتوفر فيه
الفطنة والفضيلة لكنه لا يألف السامعين ، فيمنعه ذلك من إخلاص النصح لهم بما يعود
عليهم بالنفع ، وربما كان فطنا ، لكن لا يتوافر فيه الوجهان الآخران ، فيحتال على
الناس ويغالطهم .
ب 1 ـ 2 ـ ما يتعلق بالسامع (pathos) :
ينبغي للمتصدر للخطابة أن يكون محيطا
بالأحوال النفسية والعاطفية لمستمعيه ، ومعرفة ما يثير عواطفهم المختلفة ، من غضب
، وفرح ، وشفقة ، حتى يضمن لكلامه التأثير والفعالية . "وأما بتهيئة السامع
فحين يستميله الكلام إلى شيء من الآلام المعترية ، فإنه ليس إعطاؤنا الأحكام في
حال الفرح والحزن ومع المحبة والبغضة سواء .." [xxii]
وهو هنا يوجه الحديث إلى الخطابة القضائية
خاصة ، وإن كان المستمع في أغلب الأحوال في وضعية الحكم .[xxiii]
أخذ
أرسطو يعدد هذه العواطف والانفعالات
، وقد نص على أنه يتبع في واحدة منها استيفاء ثلاث مسائل : فإذا أخذنا الغضب ـ
مثلا ـ كان علينا أن نعرف الاستعدادات
النفسية التي تحمل المرء على الغضب ، و أن نعد الذين نشعر عادة بالغضب نحوهم ، والأشياء التي تثير فينا هذا الشعور ..[xxiv]
وهكذا فعل في باقي الصفات ، ومن مختلف الطبقات والأعمار .
ب 2 ـ الحجج المنطقية الموضوعية ( logos):
" يفسح أرسطو لمعالجتها مجالا أوسع
من المجال الذي عالج فيه الأقيسة الذاتية السابقة . وهنا تتجلى علاقة الخطابة
بالمنطق ، وفي المنطق تدور الحجج المختلفة حول الاستقراء ، ثم القياس الثلاثي .
والخطابة يقوم فيها المثل exemple مقام الاستقراء ، كما
يغني المضمر enthymème عن القياس الثلاثي المنطقي [xxv].
وجميع الخطباء لا تخرج حججهم عن المثل والقياس المضمر "[xxvi]
.
ب2 ـ 1 : المثل :
يلجأ الخطيب إلى استحضار المثل في خطبته
لتعضيد القضية التي يدافع عنها ، وينقسم المثل إلى قسمين :مثل تاريخي ، ومثل
مختَرَع .
ب 2 ـ 1 ـ 1ـ المثل التاريخي : يلجأ
الخطيب إلى وقائع تاريخية حدثت في الماضي ، فيوردها حجة لتقوية رأيه والقضية التي
يتبناها .
ب2 ـ 1 ـ 2ـ المثل المخترع : وذلك بإيراد
أمثلة مشابهة للقضية ، أو يضرب لها مثلا على لسان الحيوانات ( الخرافة ) .
ب2 ـ 2 : القياس المضمر :
ينقسم القياس المضمر بدوره إلى قسمين :
قياس استدلالي ، وقياس تفنيدي " ولكل منهما مواضع حجج عامة ، نذكر منها هنا
ما يمكن أن يفيد الكاتب والخطيب "[xxvii].
ب 2ـ 2 ـ 1 : الاستدلالي : " فأهم
مواضع الحجج في القياس المضمر الاستدلالي :
ـ التضاد : وفيه تؤخذ الحجة بواسطة التضاد
بين الأشياء ، كالسلم والحرب ، والنفع والضرر ، والحق والباطل ...وذلك مثل (إذا
كانت الحرب سبب الشرور الحاضرة فبالسلم يجب إصلاحها ) ..
ـ علاقة الأقل بالأكثر : فإذا لم يكن
إثبات شيء لشيء آخر هو معه أكثر احتمالا ، فإنه لا يمكن إثباته لشيء ثالث هو معه
أقل احتمالا . كأن يقال : ( إذا كان الأنبياء لا يعلمون الغيب ، ولا يملكون
لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فغيرهم من المؤمنين لا يعلمون ولا يملكون .."[xxviii]
ب 2 ـ 2 ـ 2 : التفنيدي : " وكما شرح
أرسطو مواضع الحجاج بالقياس المضمر على نحو ما قلنا ، شرح كذلك مواضع تفنيد هذه
الحجج ، وحسبنا هنا أن نذكر كيف يفند الخطيب حجج خصمه فيما يتعلق بالقياس المضمر ،
وذلك بتأليف أقيسة أخرى مقابلة لأقيسة الخصم ، وتتضمن الاعتراضات التي تفسد على
الخصم الأقيسة التي أتى بها ....فإذا قال الخصم : ( إن الرجل الفاضل يفعل الخير
لجميع أصدقائه ) ، كان الاعتراض هو : ( لكن الشرير لا يفعل الشر لكل أصدقائه )
.."[xxix]
في ختام هذا المبحث المتعلق باستكشاف
الحجج ، نورد هنا خطاطة مستوعبة لما سلف ذكره مما يندرج تحت هذا العنوان [xxx].
استكشاف الحجج
↓ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
↓
حجج غير صناعية ( جاهزة ) حجج
صناعية ( غير جاهزة )
ـ الشهود ، والاعترافات ، والقوانين... ↓
↓ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ↓
ذاتية نفسية منطقية
موضوعية
↓ ↓
↓ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
↓ ↓ــــــــــــــــــــــــــــــ↓
تتعلق بالخطيب تتعلق بالسامع المثال
القياس المضمر
الفضيلة ـ الفطنة الخوف ـ الغضب
ـ الرحمة ↓ ↓ــــــــــــــــــ↓
والألفة حسب
الأعمار والطبقات ↓
استدلالي / تفنيدي
↓ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ↓
تاريخي مخترع
↓
↓ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ↓
اختراع أمثلة مشابهة الحكاية على لسان الحيوان
( الخرافة )
2 ـ ترتيب أجزاء القول ( taxis) [xxxi]
:
" إذ بعد الظفر بالحجج والتفكير في
مكونات الخطاب .. لا بد من التفكير في ترتيب تلك الحجج ، ووضع كل واحدة في المكان
المناسب لها ، فيزيدها ذلك قوة ويمكن لها في ذهن المخاطَب .."[xxxii]
يمكن إجمال أجزاء القول عند أرسطو في
أربعة عناصر وهي : الاستهلال ، والعرض ، والبرهنة ، ثم الخاتمة . و يتضح من خلال
كلام أرسطو أنه يركز بشكل كبير على عنصرين رئيسين هما : العرض والبرهنة ،
باعتبارهما عنصرين ثابتين في جميع أنواع الخطب ، حيث يقول " الكلام يتضمن
جزأين ، إذ لا بد من ذكر الموضوع الذي نبحث فيه ، ثم بعد ذلك نقوم بالبرهنة .
ولهذا فمن المستحيل بعد ذكر الموضوع ، أن نتجنب البرهنة ، أو نقوم بالبرهنة قبل
ذكر الموضوع ، ذلك أنه حين نبرهن إنما نبرهن على شيء ، ولا نذكر الشيء إلا من أجل البرهنة عليه . وأولى هذه العمليات هي
العرض ، والثانية الدليل ..." [xxxiii]
" أما الاستهلال والمناقشة بالتساجل
والتكرار بإيجاز لما قيل ، فإنها لا توجد في خطب المحافل ، إلا إذا كان ثمة مناظرة
. فكثيرا ما يقع في هذه الخطب اتهام ودفاع ، لكن لا يمكن أن نسمي هذا بعدُ محفلا
خطابيا . أما الخاتمة فلا تدخل في كل نوع من أنواع الخطب القضائية ، فهي مثلا بغير
فائدة ، إذا كان العرض قصيرا ، أو كانت تفاصيل القضية سهلة الحفظ ، ففي هذه الحالة
يحدث أن يحذفه المرء تجنبا للإطناب . وهكذا ليس ثم من ضرورة إلا للقضية والدليل ،
فهذا هو الملائم حقا للكلام . وقصارانا السماح بـ : الاستهلال ، والعرض ، والدليل
، والخاتمة " [xxxiv]
وجريا على هذا النسق نورد هذه العناصر
بشيء من الإيجاز :
○ الاستهلال : " والمتبع أن يحتوي
الاستهلال لحظتين : لحظة الاستهواء والاستمالة ، وذلك حسب طبيعة القضية المطروحة ،
ولحظة الإعلان عن التقسيم المتبنى ، والتخطيط المتبع "[xxxv]
يتضح من خلال النص المتقدم أن الاستهلال
ينبغي أن يتجه إلى تحقيق غايتين ، أولاهما استمالة السامع ليتهيأ لتقبل ما يلقى
إليه ، والثانية الإفصاح عما يريد الخطيب أن يخوض فيه .
○ العرض : لا يشترط في العرض أن يكون ملما بجميع التفاصيل
والجزئيات بل " ينبغي أن يكون واضحا و مختصرا ، خاليا من الاستطراد والتشخيص
، يكتفي بالإعداد لمرحلة البرهنة .."
○ البرهنة : تتخذ البرهنة منحيين اثنين
وهما الإثبات أو النقض ، أو هما معا ، بحسب نوع الخطبة ، وفي أي منها أخذ الخطيب فعليه " بعد العرض أن يسرع في البرهنة بتقديم بعض
الأدلة القوية وتأخير بعضها . وتقدم الحجج تنازلا ( من الأقوى إلى الأضعف ) ، أو
تصاعدا ( عكس الأول ) ، أو توزع بين الأول والأخير . إن ذلك يتحدد حسب رأي أرسطو،
بالنظر إلى الظرف والمعطيات العامة التي يراعيها الخطيب "[xxxvi]
○ الخاتمة : ينصب اهتمام الخطيب في صياغة
الخاتمة حول شيئين : الأول إثارة عواطف المستمعين بما يجعلهم يثقون فيه وفي القضية
التي يتبناها ، والثاني تلخيص ما سبق من الأدلة والحجج . فنحن إذن أمام "
مستويين : مستوى الأشياء ، أي مستوى الإعادة والتلخيص ، ومستوى العواطف "[xxxvii].
3 ـ الأسلوب ( أو العبارة ) ( lexis) :
" والمرحلة الثالثة في الإنتاج سماها
أرسطو " lexis " وتعرف في اللاتينية بـ : " elocutio" ولقد استعمل
ابن رشد كلمة " فصاحة " مقابلا لها ، أما بدوي
فاستعمل كلمة " أسلوب " [xxxviii]
" وتعود أهمية الأسلوب في نظر أرسطو
إلى أن عامة الناس يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم ، فهم في حاجة إلى
وسائل الأسلوب أكثر من حاجتهم إلى الحجة "[xxxix]
" فإنه ليس يكفي بأن يكون الذي ينبغي
أن يقال عتيدا ، بل يحتاج اضطرارا إلى أن يقال ذلك على ما ينبغي "[xl]
.
وعلى الخطيب قبل أن ينتج خطابه بأسلوب
يتوافق والمقام إذ " لكل نوع خطابي أسلوبا يليق به ، فالأسلوب في الكتابة
غيره في المناقشات ، والأسلوب في الجماعات غيره في المحاكم "[xli]
ويمكن إجمالا أن نحدد صفات الأسلوب عند
أرسطو في أربعة عناصر : الصحة ، والوضوح ،
والدقة ، واستعمال المجازات .[xlii]
أ ـ الصحة : وصحة الأسلوب أساس جودة
الكلام ، وتستلزم هذه الصحة أمورا ، منها استعمال الكلمات التي تربط بعضها ببعض
...ويمثل أرسطو لذلك بجملة للفيلسوف هيراكلتيس herclitus
:
(على الرغم من أن هذه الحقيقة على الدوام ، الناس لا يعتقدون فيها ) فلا يدرى بم
يتعلق ( على الدوام ) : أبالحقيقة أم بالفعل بعدها ؟ . وما تستلزمه صحة الكلام أن تسمي الأشياء بأسمائها ، ويقصد
أرسطو بذلك إلى أنه لا ينبغي أن يأتي المتكلم بكلام عام يحتمل وجوها كثيرة ، فلا
تتم به الفائدة ...[xliii]
ب ـ الوضوح والدقة : ويقصد بالوضوح استعمال الألفاظ الدارجة على
ألسنة الناس ، لأنها أقرب إلى الإفهام
وأداء وظيفة الإبلاغ ، وإن كانت
تؤدي أحيانا إلى الابتذال . ولأن الكلام الغامض أسلوب يلجأ إليه السوفسطائيون
لتضليل سامعيهم . ويحسن أن يتميز الأسلوب عن اللغة الدارجة بألفاظ وصفات ترفع من
شأنه ، على شرط أن يراعي القصد ، والمعنى المراد به ، وإلا جاءت العبارة غثة
متكلفة ، ومن الأمثلة على ذلك عبارات
أليسداماس ، فإنه بدل من أن يقول عن شخص أنه يجري يقول : ( فدفعه قلبه إلى أن يطير
بقدميه ) ، ويقول كذلك ( ستره بورق أشجار الغابة ) بدل أن يقول ستره بالورق .[xliv]
ج ـ استعمال المجازات : ويطلق عليه أرسطو
" التغيير " ، ومفهوم التغيير عنده يشمل المجاز والتشبيه والاستعارة .
يقول " فلنجعل القول هاهنا في اللاتي هن في علم هذه الجهة . ونحد فنقول إن
فضيلة المقال أن يكون بالتغيير "[xlv] " ومعظم
التعبيرات الرشيقة تنشأ عن التغيير وعن نوع من التمويه يدركه السامع فيما بعد ،
ويزداد إدراكا كلما ازداد علما ، وكلما كان الموضوع مغايرا لما كان يتوقعه ، وكأن
النفس تقول ( هذا حق ! وأنا التي أخطأت ) ، واللطيف الرشيق من الأمثال ما يوحي
بمعنى أكثر مما يتضمنه اللفظ ...وللسبب عينه كانت الألغاز لذيذة ، إنها تعلمنا
أمورا على سبيل المجاز .." [xlvi].
وينص أرسطو أن جملة من قبيل ( يجب الموت قبل ارتكاب أي خطأ ) ، ليس
فيها من الروعة شيء ، بخلاف لو قال : ( الموت الجدير بالتمجيد موت من بالموت غير
جدير ) .[xlvii]
4 ـ الإلقاء (hypocrisis ) :
تقدم الكلام عن الإلقاء في المحور الأول ،
وهو ما سماه بارث بمسرحة القول ، ويقصد به ما يصاحب الخطبة من حركات الجسد ،
وتعابير الوجه وغير ذلك .
5 ـ الذاكرة (mémoria ) :
والمقصود بالذاكرة ، قدرة الخطيب على تذكر
ما فات من خطبته وإحاطته بها حتى لا يقع في التناقض ، " ولئن
اعتبر سيسرون "
ciceron " القدرة على
الاستظهار من باب الموهبة ، فإن " كانتيليان " " quintilien" عرض
قواعد عملية تيسر تلك العملية
خاتمة :
إن عملنا في هذا العرض لا يعدو أن يكون
لمحة عن البناء الحجاجي في خطابة أرسطو ، تناولنا فيه ما يتعلق بالخطابة ، تعريفها
، وأنواعها ، وأسس بنائها .
وتعود أهمية الخطابة في هذا العصر إلى
الظروف والأوضاع العالمية الجديدة في
كافة المستويات والأصعدة ، حيث إنها تفرض
و بقوة على الإنسان أن يكون كائنا خطابيا بكل امتياز " على هذا النحو يطلق
بعض الفلاسفة على هذا العصر ، عصر الخطابة ، لا بالمعنى التقني الضيق ، وإنما
بالمعنى الواسع العميق المشير إلى مختلف التيارات المتفاعلة فيه المتصارعة .
فالخطابة في معناها العميق المتسع تعني إمكانية قيام فضاء للتعامل بين الناس على
أساس اعتبار الآخر سبيلا إلى الأنا ، يعمق اكتشاف الاختلاف معه المعرفة بالذات
والوقوف على تخومها ، وعلى أساس ما يترتب عن الاختلاف من تعدد الرؤى وتباين
المواقف ، يحمل على إقناع الواحد بسلطة الحجة والبراعة في تصريف اللغة ، وتعني
أيضا حرية الرأي وما يلزم عنها من حرية الاختيار .."[xlix]
.
من إعداد الطالب الباحث : رشيد لولو
[i] ـ الخطابة ، الترجمة
العربية القديمة ، تحقيق وتعليق عبد الرحمن بدوي ، ص : 9
[v] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة ، تحقيق وتعليق عبد
الرحمن بدوي ص : 3
[vi] ـ ابن رشد ، تلخيص الخطابة
ص : 3
[vii] ـ[vii] ـ محمد العمري ، مقالة
بعنوان " بلاغة الخطاب السياسي الهوية والرسالة " شارك بها في ندوة بدار
الثقافة ، المحمدية بتاريخ 27 / 09 / 2007 ، ونشرت بجريدة الاتحاد الاشتراكي يوم :
02 / 10 / 2007.
[viii] ـ حمادي صمود وآخرون ، أهم
نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم " ص : 12
[ix] ـ الخطابة ، الترجمة العربية القديمة ، تعليق بدوي ص
: 181.
[x] ـ هشام الريفي ، الحجاج
عند أرسطو ، ضمن كتاب أهم نظريات الحجاج ص
: 174.
[xii] ـ حمادي صمود وآخرون ، أهم
نظريات الحجاج ص : 37
[xiii] ـ يطلق عليه حمادي صمود
عبارة " البصر بالحجة " تبعا للجاحظ في كتاب " البيان والتبيين
" ، أنظر " اهم نظريات الحجاج " ص : 14.
[xiv] ـ حمادي صمود وآخرون ، أهم
نظريات الحجاج ، ص : 14
[xv] ـ الخطابة ، الترجمة
العربية القديمة ، تحقيق بدوي ، ص : 9
[xviii] ـ محمد غنيمي هلال ، النقد
الأدبي الحديث ، ص : 100
[xx] ـ الخطابة ، الترجمة
العربية القديمة ، تحقيق وتعليق بدوي ، ص : 10
[xxii] ـ الخطابة ، الترجمة
العربية القديمة ، تحقيق بدوي ، ص : 10
[xxiii] ـ محمد العمري ، في بلاغة
الإقناع ، ص : 25
[xxiv] ـ محمد غنيمي هلال ، النقد
العربي الحديث ، ص : 101
[xxv] ـ القياس الثلاثي هو
المتكون من مقدمة كبرى ، ومقدمة صغرى ، ثم نتيجة . أما القياس المضمر فهو الذي
تحذف مقدمته الصغرى ، ويكتفي بالمقدمة الكبرى والنتيجة فقط .
[xxvi] ـ محمد غنيمي هلال ، النقد
العربي الحديث ، ص : 101
[xxviii] ـ نفسه ، ص : 108 بتصرف ، أورد هلال تسعة مواضع أقتصرنا على
ذكر اثنين منها إيثارا للاختصار .
[xxix] ـ نفسه ، ص : 111 بتصرف .
[xxx] ـ استفدنا هذه الخطاطة من
كتاب " في بلافة الخطاب الإقناعي " لمحمد العمري . مع بعض التغييرات .
[xxxi] ـ جعل أرسطو الترتيب في
المرتبة الثالثة بعد الأسلوب ، لكن أغلب الدارسين درجوا على تقديم الترتيب على
الأسلوب ، على اعتبار أن الخطيب يرتب هذه الأجزاء قبل أن يباشر القول الخطبي .
[xxxii] ـ حمادي صمود ، أهم نظريات
الحجاج ، ص : 15
[xxxiii] ـ الخطابة ، الترجمة
العربية القديمة ، تحقيق بدوي ، ص : 13
[xxxv] ـ محمد العمري ، في بلاغة
الحجاج الإقناعي ، ص : 130 ، نقلا عن بارت في مقالته في مجلة communication 16 ,p:215
[xxxviii] ـ هشام الريفي ، الحجاج
عند أرسطو ،ضمن كتاب أهم نظريات الحجاج ،
ص : 173
[xxxix] ـ محمد العمري ، في بلاغة
الخطاب الإقناعي ص : 87
[xl] ـ الخطابة ، الترجمة
العربية القديمة ،تحقيق بدوي ، ص: 181
[xlii] ـ غنيمي هلال ، النقد
الأدبي الحديث . بتصرف
[xlv] ـ الخطابة ، الترجمة
العربية القديمة ، تحقيق بدوي ص : 187
[xlviii] ـ هشام الريفي ، الحجاج
عند أرسطو ، ص : 174
[xlix] ـ حمادي صمود ، أهم نظريات الحجاج ، ص : 47